فصل: قال صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب روح البيان:

{قُلْ} يا محمد {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مبعوثًا إلى الكافة من الثقلين إلى من وجد في عصره، وإلى من سيوجد بعده إلى يوم القيامة بخلاف سائر الرسل فإنهم بعثوا إلى أقوامهم أهل عصرهم ولم تستمر شرائعهم إلى يوم القيامة وإليكم متعلق بقوله: {رسول} وجميعًا حال من ضمير إليكم.
قال الحدادي: إني رسول الله إليكم كافة أدعوكم إلى طاعة الله وتوحيده واتباعه فيما أؤديه إليكم.
وفي آكام المرجان: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في أن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلّم إلى الجن والأنس والعرب والعجم فإن قلت: في بعثة سليمان عليه السلام مشاركة له لأنه أيضًا كان مبعوثًا إلى الأنس والجن وحاكمًا عليهما بل على جميع الحيوانات قلت: إن سليمان لم يبعث إلى الجن بالرسالة بل بالملك والضبط والسياسة والسلطنة؛ لأنه عليه السلام استخدمهم وقضى بينهم بالحق وما دعاهم إلى دينه لأن الشياطين والعفاريت كانوا يقومون في خدمته وينقادون له مع أنهم على كفرهم وطغيانهم كذا حققه وإلهي الأسكوبي.
قال ابن عقيل: الجن داخلون في مسمى الناس لغة وهو من ناس ينوس إذا تحرك.
قال الجوهري: وصاحب القاموس الناس يكون من الأنس ومن الجن جمع أنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل.
{الَّذِى} منصوب أو مرفوع على المدح، أي: أعني الله الذي أو هو الذي {لَه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} مراوراست ادشاهى آسمانها وزمينها وتدبير وتصرف دران.
{لا إله إِلا هُوَ} هي معبودى و{هو} بدل من الصلة التي قبله وفيه بيان لها لأن من ملك العالم كان هو الإله المتفرد بالألوهية واسم هو ضمير غيبة وهو من أخص أسمائه تعالى إذ الغيبة الحقيقية إنما هي له إذ لا تتصوره العقول ولا تحده الأوهام، وهو اسم لحضرة الغيب الثانية التي هي أول تعينات الذات الذي هو برزخ جامع بين حكمي الاسم الباطن والظاهر وحيث تخفى فيه الواو فهو اسم لحضرة غيب الغيب وهي الحضرة الأولى من حضرات الذات وهو فاتحة الأسماء وأم كتابها تنزل منزلة الألف من الحروف كذا في ترويح القلوب لعبد الرحمن البسطامي قدس سره.
واعلم: أن المقربين لا يرون موجودًا سوى الله تعالى فإذا قالوا هو أشاروا به إلى الحق سبحانه سواء تقدم له مرجع أو لا وتحقيقه في حواشي ابن الشيخ في سورة الإخلاص.
{لا إِلَهَ إلا هو} زيادة تقرير للألوهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الذي لا إله إلا هو.
قال الحدادي: يحيي الخلق من النطفة ويميتهم عند انقضاء آجالهم لا يقدر على ذلك أحد سواه وقيل: معناه يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا.
{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ} الفاء لتفريع الأمر على ما تمهد وتقرر من رسالته عليه الصلاة والسلام.
{النبي الأمِّىِّ} مدح له عليه السلام، ومعنى الأمي: لا يقرأ ولا يكتب فيؤمن من جهته أن يقرأ الكتب وينقل إليهم أخبار الماضين ولكن يتبع لما يوحى إليه {الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي: ما أنزل عليه من أخبار سائر الرسل ومن كتبه ووحيه وإنما وصف به لحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به، والتصريح بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به.
{وَاتَّبِعُوهُ} أي: في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علة للفعلين أو حال من فاعليهما، أي: رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له، وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام أحكام شريعته فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلالة.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتبع سنته، ولزم طريقته؛ لأن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وعلى المقتفين أثره والمتابعين سنته.
قال الشيخ العارف الواصل الوارث الكامل محيي الدين بن العربي قدس سره في بيان السنة، والسني: الإنسان لا يخلو أن يكون واحدًا من ثلاثة بالنظر الشرعي، وهو إما أن يكون باطنيًا محضًا، وهو القائل بتجريد التوحيد عندنا حالًا وفعلًا، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرائع وقلب أعيانها وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين أو سنة من سننه ولو في العادات كالأكل والشرب والوقاع، فهو مذموم بالإطلاق عصمنا الله وإياكم من ذلك.
وإما أن يكون ظاهريًا محضًا متقلقلًا بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه نعوذ بالله منهما في باب الاعتقادات، أو يكون معتمدًا على مذهب فقيه من الفقهاء أصحاب علوم الأحكام المحجوبة قلوبهم بحب الدنيا عن معاينة الملكوت فتراه خائفًا من الخروج عن مذهبه فإذا سمع سنة من سنن النبي عليه السلام يحيلها على مذهب فقيه آخر فيترك العمل بها، ولو أوردت ألف حديث مأثور في فضائلها فيتصامم عن سماعها بل يسيء الظن برواية المتقدمين من التابعين والسلف بناء على عدم إيراد ذلك الفقيه إياها في كتابه، فمثل ذلك أيضًا ملحوق بالذم شرعًا وإلى الله نفزع ونلتجىء من أن يجعلنا وإياكم منهم.
وإما أن يكون جاريًا مع الشريعة على فهم اللسان حيث ما مشى الشارع مشى وحيث ما وقف وقف قدمًا بقدم حتى في أقل شيء من الفضائل في العبادات والعادات صارفًا جل عنايته وباذلًا كل مجهوده في أن لا يفوته شيء من الأفعال المحمدية في عباداته وعاداته على حسب ما سنح له في أثناء مطالعاته من كتب الأحاديث المعول عليها أو ألقى في أذنه من أستاذه وشيخه المعتمد عليه إن لم يكن من أهل المطالعة فهذا هو الوسط وهو السنة والآخذ به هو السني وبهذا يصح محبة الله له.
وحكي أن الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قال: راعيت جميع ما صدر عن النبي عليه السلام سوى واحد وهو أنه عليه السلام زوج بنته عليًا رضي الله عنه وكان يبيت في بيتها بلا تكلف ولم يكن لي بنت حتى أفعل كذلك.
وحكي عن سلطان العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال ذت يوم لأصحابه قوموا بنا حتى ننظر إلى ذلك الذي قد سهر نفسه بالولاية قال فمضينا فإذا بالرجل قد قصد المسجد فرمى بزاقه نحو القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا ليس بمأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكيف يكون مأمونًا على ما يدعيه من مقامات الأولياء والصديقين.
وحكي عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: كنت يومًا مع جماعة تجردوا ودخلوا الماء فعملت بالحديث وهو: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر» ولم أتجرد فرأيت تلك الليلة قائلًا يقول لي: يا أحمد أبشر فإن الله قد غفر لك باستعمالك السنة وجعلك إمامًا يقتدى بك فقلت من أنت قال جبريل عليه السلام.
وعن عابس بن ربيعة قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
واتفق المشايخ على أن من ألقى زمامه في يد كلب مثلًا حتى لا يكون تردده بحكم طبعه فنفسه أقوم لقبول الرياضة ممن جعل زمامه في حكم نفسه يسترسل بها حيث شاء كالبهائم فالواجب عليك أن تكون تابعًا لا مسترسلًا.
فإذا اتبعت فاتبع سيد المرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلّم الذي آدم ومن دونه من الأنبياء والأولياء تحت لوائه فإذا اتبعت واحدًا من أمته فلا تتبعه لمجرد كونه رجلًا مشهورًا بين الناس مقبولًا عند الأمراء والسلاطين بل كان الواجب عليك أن تعرف أولًا الحق ثم تزن الرجال به، وفيه قال باب العلم الرباني علي رضي الله عنه: من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، بل اعرف الحق تعرف أهله وبقدر متابعتك للنبي صلى الله عليه وسلّم تستحكم مناسبتك به وتتأكد علاقة المحبة بينك وبينه وبكل ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلّم من الصلاة عليه أو زيارة قبره أو جواب المؤذن والدعاء له عقيبه كنت مستحقًا لشفاعته قالوا لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو عصاه أو سوطه على قبر عاص لنجا ذلك العاصي ببركات تلك الذخيرة من العذاب وإن كانت في دار إنسان أو بلدة لا يصيب سكانها بلاء ببركاتها، وإن لم يشعروا بها ومن هذا القبيل ماء زمزم والكفن المبلول به وبطانة أستار الكعبة والتكفن بها.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: وإذا أردت مثالًا من خارج فاعلم أن كل من أطاع سلطانًا وعظمه فإذا دخل بلدته ورأى فيها سهمًا من جعبته أو سوطًا له فإنه يعظم تلك البلدة وأهلها، فالملائكة يعظمون النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا رأوا ذخائره في دار أو بلدة أو قبر عظموا صاحبه وخففوا عنه العذاب ولذلك السبب ينفع الموتى أن توضع المصاحف على قبورهم ويتلى عليهم القرآن ويكتب القرآن على القراطيس وتوضع في أيدي الموتى كذا في الأسرار المحمدية.
اللهم اجعل حرفتنا محبته وارزقنا شفاعته. اهـ.

.قال الشوكاني:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
لما تقدّم ذكر أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتوبة في التوراة والإنجيل، أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضى لعموم رسالته إلى الناس جميعًا، لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام، فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة، و{جميعًا} منصوب على الحال، أي حال كونكم جميعًا.
و{الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} إما في محل جرّ على الصفة للاسم الشريف، أو منصوب على المدح، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وجملة {لاَ إله إِلاَّ الله} بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها، لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة، وهكذا من كان يحيى ويميت هو المستحق لتفردّه بالربوبية ونفى الشركاء عنه.
والأمر بالإيمان بالله وبرسوله متفرع على ما قبله.
وقد تقدّم تفسير النبيّ الأميّ.
وهما وصفان لرسوله.
وكذلك: {الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته} وصف له، والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو القرآن فقط.
وجملة {واتبعوه} مقررة لجملة {فَآمِنُواْ بالله}، و{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علة للأمر بالإيمان والاتباع.
وقد أخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود فقال: {قُلْ يا أيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة، فلا نطيل بذكرها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {يُؤْمِنُ بالله وكلماته} قال: آياته.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد {وكلماته} قال: عيسى. اهـ.

.قال صاحب المنار:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
ذُكِرَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِطْرَادًا بِحَسَبِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمِنْ سَائِرِ قِصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُهَا فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ لِدَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُتُبِهِمْ وَالْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَبَيَانِ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاتِّبَاعِهِ نَاسَبَ أَنْ يُقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانُ عُمُومِ بَعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعْوَةُ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى وَبِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لَهُ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَجَّهَهُ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْهَاشِمِيِّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، يُنْبِئُهُمْ بِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ كَافَّةً لَا إِلَى قَوْمِهِ الْعَرَبِ خَاصَّةً كَمَا زَعَمَتِ الْعِيسَوِيَّةُ مِنَ الْيَهُودِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (34: 28) وَقَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (6: 19) أَيْ وَأَنْذِرَ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يُؤْمِنُ بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفَرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيُكَوَّنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (25: 1) وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 107) وَهُوَ يَشْمَلُ عُقَلَاءَ الْجِنِّ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ نَاطِقَةٌ بِاخْتِصَاصِهِ صلى الله عليه وسلم لِرِسَالَةِ الْعَامَّةِ كَحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَافَّةً»، وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا غَيْرَ خَاصَّةٍ بِهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ بِهِ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ لِيُعْلَمَ مُسْتَقَرُّ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَفِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يُرْسِلُونَ الْوُفُودَ إِلَى آدَمَ فَنُوحٍ فَإِبْرَاهِيمَ فَمُوسَى فَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِفَضْلِ الْقَضَاءِ، فَيَعْتَرِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَيَقُولُ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» وَيَطْلُبُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَيُحِيلُهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، حَتَّى إِذَا أَحَالَهُمْ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَجَابَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَقَالَ: «أَنَا لَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَا صَاحِبُكُمْ» فَيُشَفَّعُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَقِيلَ: مَا يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا، وَالرِّوَايَاتُ فِي الشَّفَاعَةِ مُتَدَاخِلَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَلَسْنَا بِصَدَدِ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا.